المذهب الحنبلي:
إمام هذا المذهب، هو الإمام
أحمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، و لد في بغداد سنة (164 هـ)، و نشأ
فيها و بعد أن حفظ كتاب الله أقبل على السنة يستظهرها و يرويها عن الأعلام
في عصره كسفيان بن عيينه و الشافعي، حتى صار إمام المحدثين في عصره.
و قد تفقه على الشافعي حين جاء
إلى بغداد، ثم أصبح مجتهدا مستقلا و برز على أقرانه بحفظ السنة النبوية، واشتهر بالذب
عنها و جمعها و كتابه المسند الذي حوى أكثر من أربعين ألف حديث خير شاهد على ذلك.
وامتحن ابن
حنبل في زمن المأمون و المعتصم و الواثق بالضرب ليقول بخلق القرآن)
فما وهن ولا استكان،
و أصر على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، بل هو قديم.و في عصر المتوكل أطلق من حبسه،
و أكرمه الخليفة و عظم موقفه و أثنى على صبره واحتسابه، توفي سنة (241
ه ).
أصول المذهب الحنبلي:
أورد ابن القيم في إعلام
الموقعين أصول مذهب الإمام أحمد فقال: و كانت فتاويه (أي ابن حنبل) على خمسة أصول:
أحدها:
النصوص فإذا وجد النص أفتى بموجبه، و لم يلتفت إلى
ما خالفه و لا من خالفه كائنا من كان.
و الثاني: ما أفتى به الصحابة فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم لم
يعدها إلى غيرها و لم يقل إن ذلك إجماع. و
الأصل الثالث:
أنه إذا
اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب
و السنة، و لم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبين له مواقفه أحد الأقوال حكى
الخلاف فيها و لم يجزم بقول.
و الأصل الرابع:
الأخذ بالمرسل و الحديث الضعيف
إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه و هو الذي رجحه على
القياس، و ليس المراد بالضعيف عنده الباطل و لا المنكر و لا ما في روايته متهم
بحيث لا يسوغ الذهاب إليه في العمل به
بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح، و قسم من
أقسام
الحسن.
ثم يقول ابن القيم: فإذا لم يكن
عند الإمام أحمد في المسألة نص و لا قول لصحابة أو واحد منهم، و لا أثر مرسل أو ضعيف
عدل إلى الأصل الخامس و هو
القياس فاستعمله للضرورة.
واستطرد ابن القيم بعد الحديث
عن أصول الإمام أحمد فقال: فهذه الأصول الخمسة من أصول فتاويه و عليها مدارها، و قد
يتوقف في الفتوى؛ لتعارض الأدلة عنده، أو لاختلاف الصحابة فيها، أو لعدم اطلاعه
فيها على أثر أو قول أحد من الصحابة و التابعين.
و كان شديد الكراهة و المنع
للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف كما قال لأصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام.
و يبدوا مما ذكره ابن القيم أن
مصادر اجتهاد الإمام أحمد يقوم على النصوص من كتاب و سنة و آثار عن الصحابة، و هو لا
يستعمل القياس إلا عند الضرورة كما يبدوا كذلك فيما ذكره مدى اهتمام ابن حنبل بالسنة، و
توسعه في الأخذ بها و لا غرو فهو من كبار المحدثين الذين تبحروا في
دراسة السنة و جمعها.
و من أجل هذا
مال بعض العلماء إلى عد ابن حنبل من المحدثين لا من
الفقهاء، فابن قتيبة في كتابه (المعارف) لم يذكره بين الفقهاء، وابن
عبدالبر في كتابه الانتقاء
اقتصر على ابن حنيفة و مالك و الشافعي، و من قبل ابن عبدالبر اقتصر الطبري في كتابه اختلاف
الفقهاء على هؤلاء، و فعل هذا أيضا ابن رشد في كتابه (بداية المجتهد و نهاية المقتصد).
و لكن ابن حنبل و إن
كان محدثا كبيرا فلا يعني هذا أن يكون بعيدا عن الفقه و مجالاته، فهو
فقيه مجتهد، و إن لم يضع كتابا في الفقه.و إذا كان قد تردد في كتب
الحنابلة أن الإجماع و المصالح المرسلة و سد الذرائع و الاستحسان و الاستصحاب أصول في
المذهب الحنبلي، فإن هناك من يرى أن ابن القيم و إن لم يذكر هذه الأصول عند ابن حنبل يمكن
إدخالها كلها في باب القياس، إذا فسر بمعنى واسع يشمل كل وجوه الاستنباط
من غير النصوص. بيد أن عد هذه الأصول التي قال بها الحنابلة بعد إمامهم أصولا
لدى ابن حنبل نفسه و دخولها في باب القياس غير مسلم؛ لأن هذا الإمام
لا يقول بالقياس إلا عند الضرورة، و يكره الفتوى في مسألة ليس فيها أثر،
فالقياس لديه إذن ليس ميدانا واسعا يشمل كل وجوه الاستنباط من غير النصوص، و
هو لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة مع كراهة الاعتماد عليه و الأخذ به في هذه
الحالة.
لقد كان ابن حنبل محدثا فقيها،
يقوم فقهه على النصوص دون الرأي إلا قليلا أو نادرا، و لا يضيره ألا يكون قد قال بما
قال به أتباعه من بعده.
تلامذة ابن
حنبل:تفقه على الإمام أحمد كثير من
التلاميذ، و قام هؤلاء التلاميذ بتدريس فقه غمامهم، و الإجتهاد و التأليف فيه، و من أشهر
هؤلاء التلاميذ و تلاميذهم:
ابناه
عبد الله بن أحمد بن حنبل و صالح بن احمد بن حنبل.
إسحاق التيمي : هو أبويعقوب الكوسج المروزي، ولد في مرو، و أخذ عن فقهاء العراق و الشام و
الحجاز، ثم جاء إلى بغداد فتفقه بالإمام أحمد وابن راهويه.
وثقه الإم مسلم و النسائي، و
روى عنه خلق كثير، و جاء أنه هو الذي دون عن ابن حنبل وابن راهويه المسائل في الفقه، توفي
سنة (251هـ).
الأثرم : هو أبوبكر أحمد بن محمد بن هانئ الخرساني البغدادي. روى عن الإمام أحمد مسائل كثيرة،
ثم رتبها و بوب لها، و عرضها على هذا الإمام فأقره على صحتها.
له بعض المؤلفات، منها كتاب في
العلل، والتاريخ، و الناسخ و المنسوخ، و السنن في الفقه على مذهب الإمام أحمد، توفي
سنة (273 هـ).
الخرقي : هو أبو القاسم عمر بن الحسين، تلقى عن ولدي الإمام أحمد (صالح و عبدالله) و عن غيرهما ...
و كان عالما بارعا في المذهب.اشتهر الخرقي بكتابه (المختصر) الذي بلغت مسائله
(2300) مسألة و شرحه ابن قدامة في موسوعته (ألمغني) و هو أكبر و أضخم
كتاب في الفقه الحنبلي و الفقه المقارن، و يعتبر من أهم المراجع لكل
متصل بالفقه الإسلامي.توفي بدمشق مهاجرا من بغداد سنة (334 هـ)
الخلال: هو أبوبكر أحمد بن محمد هارون، أخذ الفقه عن
أصحاب أحمد، و طوف في البلاد
ليجمع فقه إمام المذهب، فتيسرت له منه مجموعة كبيرة لم تتيسر لغيره، و صنف في الفقه والسنة
و الأدب، توفي سنة (311 هـ).
مواطن انتشار
المذهب الحنبلي:
لم يقرر لمذهب الإمام أحمد أن
ينتشر في بغداد انتشارا واسعا، حيث نشأ الإمام و دَرسَ و
درس –بتشديد الراء-، و روى و حمل –بتشديد الميم- الحديث، فقد كان أتباعه فيها قلة، بسب مزاحمة المذهب
الحنفي الذي تبناه العباسيون في القضاء و الإفتاء. ويضاف على ذلك أن بغداد كانت أيام
ظهور ابن حنبل ملتقى المذاهب و معترك الاتجاهات الفقهية، و الصراعات
الفكرية، فلم يستطع المذهب الحنبلي أن يفرض نفسه في بغداد وسط تلك المذاهب و
الاتجاهات المتنافسة.
وقد انتقل المذهب من العراق إلى الشام و مصر، و كثر أتباع المذهب في عهد الفاطميين و الأيوبيين و بخاصة
في بلاد الشام.
و كان لما قام به الإمامان ابن
تيمية و ابن القيم من جهد علمي رائع أثر كبير في إحياء المذهب الحنبلي الذي كاد أن
يندثر، و جاء الإمام محمد بن عبد الوهاب فكانت دعوته إحياء آخر لهذا المذهب فعم الجزيرة
العربية تقريبا إلا أطرافا منها. و مازال حتى الآن المذهب الأول في الجزيرة
بوجه عام، و له أتباع في جنوب العراق و سورية كما أن له أتباعا في مصر.
و مع هذا يظل المذهب الحنبلي
أقل أتباعا في الماضي و الحاضر بالنسبة للمذاهب الثلاثة، الحنفي و المالكي و
الشافعي، و قد لفتت هذه الظاهرة نظر بعض الباحثين قديما كابن خلدون فعلل لها بخلو المذهب من
نزعة الاجتهاد الفقهي، و هو تعليل غير مسلم، فكتب المذهب المعتبرة لا
تختلف عن كتب المذاهب الأخرى من حيث كثرة الاجتهادات و الأخذ بوسائل
الاستنباط العقلية.
و يرى بعض المحدثين أن السبب في
قلة أتباع المذهب الحنبلي مرده إلى بعد إمام المذهب عن السلطان، و عدم تولي أتباعه
القضاء، و تمسكهم بظواهر النصوص.
مخطوطة تنسب إلى
ابن حنبل
مؤلفاته:·
مسند الإمام أحمد:المسند
حمل نسخة نصية.
- حمل
نسخة مصورة بتحقيق الأرناؤوط من المكتبة الوقفية ويحوي أكثر من أربعين ألف
حديث نبوي. وكتاب المسند
قد تعرض لعدة شروحات ومن أفضلها كتاب الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد
الشيباني - للشيخ
أحمد البنا.
كتب المذهب الحنبلي:
و فيما يلي عرض موجز لأهم كتب ومؤلفات تلاميذه و أنصاره في هذا الفقه:
1مختصر الخرقي : لأبي القاسم عمر بن
الحسين عبدالله بن أحمد الخرقي و هذا المختصر أول كتاب في
فقه الإمام أحمد، و لهذا نال من العلماء اهتماما و عناية
فكتبت عليه عدة شروح، منها شرح للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين
بن الفراء البغدادي، و أشهر هذه الشروح و أهمها "المغني" لابن
قدامة، فهو موسوعة في الفقه الحنبلي و الفقه المقارن.2الهداية : لأبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني ، و هي مختصر، ذكر فيه أبوالخطاب
جملا من أصول المذهب، و عيونا من مسائله، ليكون هداية للمبتدئين، و تذكرة للمنتهين.
3المستوعب : لمحمد
بن عبدالله بن محمد بن إدريس السامري (قد جمع فيه ابن إدريس بين عدة مختصرات، منها
المختصرات الثلاثة التي عرفنا بها آنفا، و قد تحوي في جمعه أصح
ما قدر عليه من هذه المختصرات، ثم زاد على ما ذكر مسائل و
روايات لم تذكر فيما نقل منه، و قد أخذ من بعض كتب أصحابه في
المذهب.
ولموفق الدين عبدالله بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة ، ثلاثة كتب في الفقه الحنبلي تتفاوت من حيث الإيجاز و الإطناب، فمنها المختصر، و هو كتاب "العمدة"، و هو متن مبارك ذكر
فيه من المسائل ما ترجح عنده في المذهب، و "المقنع" و هو كتاب موجز، بيد أنه
جامع لأكثر الأحكام دون تدليل أو تعليل، و "الكافي" للسنة.ولأهمية
كتب ابن قدامة أقبل الناس عليها حفظا و تدريسا
و شرحا، فالكافي يقبل عليه الطلاب و الدارسون
لسهولة عبارته و جمعه للمسائل، و بيان الحكم مع الدليل، و المقنع تضافرت جهود العلماء المتأخرين عليه بالشرح و التدريس حتى أصبح أصلا
لمتون
المتأخرين من الحنابلة.
4المحرر : لمجد الدين أبي البركات
عبدالسلام بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن علي بن تيمية و هو كتاب جاء حاويا لآكثر
أصول المسائل، و خاليا من العلل و الدلائل، و قد اجتهد مؤلفه
في إيجاز لفظه؛ ليتيسر على الطلاب حفظه.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية فقد خص في موسوعته الكبرى "الفتاوي" الفقه بخمسة عشر جزءا، جمعت آراء
هذا الإمام الفقهية، و هذه الآراء و إن غلب عليها
الاجتهاد، و الروح الاستقلالية في الاستنباط لا تخرج عن المنهج العام للمذهب الحنبلي، فهي من ثم من مصادره و أصوله المعتبرة.
و كذلك تعد مؤلفات ابن القيم و هو تلميذ ابن تيمية، و
ترسم خطاه في
الاجتهاد، و منها
"زاد المعاد"، و الطرق الحكيمة، و إعلام الموقعين.
5الفروع : لابن
مفلح،
و هو متن وسط، جرده مؤلفه عن الأدلة مع تقديم الراجح في
المذهب و الإشارة أحيانا إلى مواطن الإختلاف بين المذهب
الحنبلي، و المذاهب الثلاثة: الحنفي و المالكي و
الشافعي.
و لعلاء الدين علي بن سليمان المرداوي كتاب "تصحيح الفروع" وهو استدراك على كتاب الفروع في
المسائل التي
اعتبرها ابن مفلح هي المذهب، و كذلك المسائل التي أطلق
فيها الخلاف، و المذهب فيها مشهور.
6الإقناع : في
فقه الإمام
أحمد بن حنبل، لموسى بن أحمد بن سالم الحجاوي المقدسي .
و يعد "الإقناع" الكتاب الثاني المعتمد في المذهب عند
متأخري الحنابلة، و هو كتاب مختصر أشبه ما يكون بالمتن، و لذا خلا من الدليل و التعليل مع الإكتفاء بقول واحد، و هو الراجح في المذهب.
و أما تقي الدين محمد بن أحمد بن عبدالعزيز بن علي
الفتحوي المشهور بابن النجار فقد جمع في كتابه: "منتهى الإرادات" بين "المقنع" لابن قدامة، و "التنقيح" للمرداوي مع ضم بعض الفوائد، و لم يحذف من
"المقنع و التنقيح" إلا المستغنى عنه أو المرجوح.
و "منتهى الإرادات" هو ثالث الكتب المعتمدة في المذهب عند
المتأخرين، و للبهوتي صاحب "كشاف القناع" شرح على منتهى الإرادات.التذكرة
: لأبي الوفاء علي بن عقيل البغدادي.وفاته:توفي أحمد بن
حنبل يوم
الجمعة 12 ربيع الأول سنة
241 هـ، وله من العمر سبع وسبعون سنة. وقد اجتمع
الناس يوم جنازته حتى ملؤوا
الشوارع. وحضر جنازته من الرجال مائة ألف ومن النساء ستين ألفاً، غير من كان في الطرق وعلى
السطوح. وقيل أكثر من ذلك.
وقد دفن أحمد بن
حنبل في
بغداد في جانب
الكرخ قرب مدينة تسمى
الكاظمية، قبره بين مقابر المسلمين وغير معروف سوى
مكان المقبرة، وقيل أنه أسلم
يوم مماته عشرون ألفاً من
اليهود و
النصارى و
المجوس، وأن جميع
الطوائف حزنت على موته.
خلاصة:كان الإمام أحمد
عليماً بالأحاديث الأمر الذي وفر له ثروة هائلة في العلم مكنته من الاستنباط. وقد ضيق باب
القياس مما جعل الأحكام أقرب إلى مرامي الشارع ومقاصده المستوحاة من أعمال الرسول
وأقواله. وكانت هناك حاجة ماسة إلى أحكامه، لأن العرب تفرقوا بين الأمصار التي
فتحوها وفيها أمم وشعوب مختلفة. وقد قدّم الإمام أحمد الحديث على الرأي
والقياس ولو كان ضعيفاً. كما أنه أكمل مشوار الشافعي من ناحية تعظيم دور
السنة في البناء الفقهي، وكانت شخصية الإمام أحمد رمزاً للصمود والثبات
على الإيمان الراسخ ورفض الأفكار الدخيلة على الإسلام والعقيدة الإسلامية.